د. احمد حرب
(هذا المقال جزء من دراسة مطولة باللغة الانجليزية تتناول موضوع صورة القدس في الأدب الفلسطيني نشرت في مجلة Arcadia: International Journal of Literary Studies (العدد 38. 2003). وقد قمت بترجمة الجزء المتعلق برواية الأديب الفلسطيني الكبير جبرا ابراهيم جبرا للأهمية الثقافية والأكاديمية والسياسية لصورة القدس وتجلياتها في الأدب الفلسطيني. وبالمناسبة يتصادف نشر المقال باللغة العربية مع الذكرى 28 لرحيل الكاتب، ومع ميلاد السيد المسيح الذي شكل ثيمة عليا في رواية جبرا.)
تسترشد هذه الدراسة في إطارها العام لصورة مدينة القدس في رواية جبرا إبراهيم جبرا بنظرية الناقدة الأمريكية Blanche Gelfant حول رواية المدينة. فمن خلال الممارسة الأدبية، إن لم يكن من خلال نظرية الأدب بشكل عام، تبرز ثلاثة أنماط رئيسية لرواية المدينة: “الصورة” (Portrait) التي تعطي صورة للمدينة من خلال نضالات وذكريات إحدى شخوصها، والرواية “الإجمالية” (Synoptic) التي تظهر فيها المدينة بشموليتها وآفاقها الواسعة كشخصية في حد ذاتها من شخوص الرواية، والرواية “البيئية” (Ecological) وهي تلك التي تركز على “وحدة مكانية” معينة في المدينة مثل “الحي” أو “الميدان” أو “الساحة” وتستكشف بتفصيل روائي ماهيّة الحياة في ذلك المكان(1).
فمدينة القدس، كغيرها من المدن، يمكن أن تصور في الأدب من خلال أي خاصية أو مركب من الخاصيات التاريخية والدينية والثقافية والجغرافية التي تميزها كمكان في الجغرافية ومشهد للروح وكطريقة متكاملة للحياة يمكن أن “تقولب الشخصية وتصنع قدرها”. (Gelfant, 4). وقد اخترت من بين روايات جبرا إبراهيم جبرا روايتي صيادون_في_شارع_ضيق (1960)، و السفينة (1970)، كنموذج لرواية القدس، رواية المدينة (الصورة) التي تمثّل فيها المدينة من خلال نضال الشخصية الرئيسية. وهنا لا بدّ من الاستدراك بأن استخدامي لمصطلح “رواية المدينة” بالعلاقة مع “القدس” لا يعني بالضرورة بأن وصف القدس كمدينة يحمل الإيحاءات والمعاني نفسها المرتبطة بمفهوم المدينة الحديثة مثل باريس ولندن ونيويورك وغيرها، أي المدينة التي يتصف فيها المكان بالصناعية المتقدمة والعلاقات الاجتماعية، والاقتصادية المعقدة التي تغلب عليها حالات الاغتراب ومجهولية الفرد. بل استخدم هذا التعبير بشكل أساسي لتقييم المستويات المختلفة لحضور القدس في المشهد الطبيعي والروحي الفلسطيني الذي يشكل أهم مقومات مفهوم الوطن لدى الفلسطينيين.
كما يجدر بالذكر، أنني لاحظت أن معظم الأعمال الأدبية والفنية الفلسطينية، من شعر وقصة ورواية وفن تشكيلي (بما في ذلك روايتي جبرا المذكورتين)، تصور القدس كامتداد جغرافي ريفي يتواصل مع المشهد الطبيعي الفلسطيني العام من جبال ووديان وعيون له ميزاته الدينية والروحية والتاريخية والوطنية.
أسباب هذه الخاصية النمطية للتمثيل الأدبي الفلسطيني للقدس، تكمن، ربما، في طبيعة التجربة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الصهيونية الغربية كحركة استعمارية استيطانية بحيث ارتبطت المدينة –كما يقول إدوارد سعيد في كتابه المسألة الفلسطينية (1979)- في الخيال الفلسطيني بالصهيونية والاستعمار، بينما ارتبط المشهد الريفي بالحرية والروحانية والهوية الوطنية التي تعرّف نفسها بالأرض. فمنذ بداية القرن العشرين كانت فلسطين موقعاً للصراع بين الوجود الوطني المحلي، وبين الوجود الدخيل الوافد بشكل أساسي من أوروبا والغرب بثقافتهم الغربية المتقدمة (ص19)(2). وبهذا، لم تكن القدس في إطار الوعي الوطني الفلسطيني منفصلة عن باقي المشهد الجغرافي، أي كل فلسطين، كل “الوطن”.
وبالتالي، فإن التصوير الريفي للقدس في الأدب الفلسطيني يرمز إلى وحدة القدس بمحيطها، ويؤكد على مفهوم القدس “كوطن”، إذ أن المكان الريفي، كما يقول ريموند وليمز في كتابه “1975) The Country and the City، هو أقدر على تمثيل القيم الوطنية في الأدب الوطني أو الفن، إذ أن كلمة Country تعني “الأمّة” و”الوطن” على حد سواء(3).
وهذا التصوير الريفي يتوافق أيضاً مع صورة القدس في القرآن الكريم في “سورة الإسراء”، آية (1) كجزء لا يتجزأ من المشهد الطبيعي المقدس المحيط بها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}. من المثير للاهتمام أن جبرا إبراهيم جبرا مع هذا التصوير، كما سنرى لاحقاً من خلال توظيفه للتقاليد الرعوية المسيحية آخذاً “بمثال المسيح”، الجميل في وجهه وفي قيمه كصخور القدس في أرض فلسطين.
يذكر جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه البئر الأولى: فصول في سيرة ذاتية، أنه احتفظ في ذهنه طوال حياته بمقولة الشاعر الرومانسي وليم وردزويرث “إن الطفل هو والد الرجل/ وأتمنى أن ترتبط أيامي بعضها بعضاًَ بوصال إلهي”، وذلك من منطلق رغبته العميقة في التأكيد على روعة فترة الطفولة في حياة الإنسان، ربما لقربها من أصل الكينونة.. الذي منبته في السماء(4) (ص12).
يشكل هذا القول مفتاحاً لجماليات تمثيل القدس لدى جبرا في روايتي صيادون في شارع ضيق والسفينة. أعتقد أن من بين الدوافع الرئيسية في هاتين الروايتين هو رغبة الكاتب القوية بأن يستولد الصورة المثالية للقدس، صورة طفولته صورة “المسيح” الفلسطيني في ربوعها، كنقيض يجب استعادته والاحتفاظ به في أعماق الذاكرة الأبدية للواقع الأليم الذي تعيش فيه القدس مبتورة وحزينة ومقطعة الأوصال. فقد ولد جبرا في بيت لحم في العام 1920 في منطقة “الخان” القريبة من كنيسة المهد، وترعرع في مدينة القدس في حي “القطمون”، وكصبي تمشّى على تلال القدس وجبالها واستحم في “عيونها” بمائها المقدس واصطحب الرعاة في وادي الربابة وزار كنيسة القيامة ومشى على “طريق الآلام” وزار الأقصى وقبة الصخرة وقلعة داوود، “راحت شوارع القدس تنسرح كلها معاً أمام عيني، صاعدة، نازلة، منعطفة، وبناياتها بحجرها الأبيض تذرذر الأشعة وتسكب وهج الفضة والذهب الذي يتلألأ في خيال العشاق جميعاً حين يطول بهم الفراق”. (صيادون، ص104)(5).
هذه هي الصورة الجميلة للقدس التي تتماوج في ذاكرة بطل جبرا جميل فرّان في صيادون في شارع ضيق، وهي الصورة التي تفرض نفسها بقوة في الرواية كرمز للهوية الوطنية والجمال والحب الأزلي، ويعبر عنها جبرا من خلال غشيات صوفية للبطل تشبه ما يسميه جون كيتس، الشاعر الإنجليزي، “بالقوة السلبية” في وصفه لحالة “اللحظة الشعرية”، وهي تلك الموهبة التي تسمح لكبار الفنانين بأن يصبحوا وسيطاً للوحدة بين الحقيقة والجمال، ويحتفظ بها بطله على الرغم من وجع الواقع(6).
ما أن تطأ قدم جميل فران أرض بغداد حتى تعود به الذاكرة إلى ذلك المشهد الرهيب، عندما تهاجم إحدى العصابات اليهودية الإرهابية حي القطمون في القدس عام 1948 في ليلة عاصفة، وتنسف بيت حبيبته ليلى شاهين:
“.. وبعد ثلاث ليال هبّت عاصفة هوجاء قاصفة، وأرعدت السماء وزمجرت، وهطل المطر مدراراً طيلة ساعات. وفجأة انقطعت القوة الكهربائية فغرق في ظلام دامس.. وعندما نظرت إلى الخارج صرخت مذعوراً: كان بيت آل شاهين ركاماً كبيراً من الحجارة لا يكاد يرى خلال الليل الأسود..” رب احفظ حياة ليلى، احفظ حياة ليلى يا رب!”.
“وكالمجنون تسلقت الأنقاض والحجارة الكبيرة وقضبان الحديد في أمل بائس. ثم شعرت بشيء ناعم يرتطم بيدي، فحفرت حوله. كانت يداً مقطوعة من الرسغ. كانت يد ليلى، وخاتم الخطبة يحيط بإصبع الخنصر. فجلست بكيت؟!” (صيادون، ص18-19).
يشكل هذا المشهد المأساوي الصورة الأدبية الرئيسية للقدس التي بنيت عليها الرواية، فهو من ناحية يقيم توازياً موضوعياًَ بين الحبيبة ليلى، المقطعة الأوصال تحت الركام، وبين القدس التي تمزقها الهجمات الصهيونية. ومن ناحية أخرى، بين الصورة المثالية خالصة الجمال “لقدس المسيح” في خيال جميل فرّان والقدس في الواقع. ويغدو هذا التوازي قوياً جداً في الرواية لدرجة يشعر القارئ فيها بأن المحبوبة “القدس” والمحبوبة “ليلى” هما صورتان متبادلتان في وعي جميل فران لنفس “الحلم” الذي يحاول إدراكه طيلة حياته بعد اللجوء في أعقاب ذلك المشهد. فعندما يفر مع عائلته إلى بيت لحم طلباً للنجاة، وبوعي الفنّان الذي يحاول فهم ما حدث، يسأل جميل فرّان الأب عيسى، راهب الأبرشية، لماذا يحدث كل هذا لقدس المسيح والمسيحية الغربية تتفرج. ثم يستدرك قائلاً: “ولكنني أفكر بالمسيح كرجل يسير في شوارعنا بوجه ناحل ويدين جميلتين. أفكر به واقفاً حافي القدمين على حجارة شوارعنا وهو يدعو البشرية كلها لحبه وسلامه. أفكر به هنا في هذه الشوارع والتلال والبيوت والأكواخ. وعندي أن المسيح جزء من هذا المكان. ولكن أتعرف كيف يفكرون به في الغرب؟ هل تظن أن مسيحيتنا تشبه مسيحيتهم؟ وحين ينشدون المزامير عن القدس هل تظنهم يقصدون شوارعنا بسقوفها المعقودة وأزقتنا المرصوفة بالحجارة وتلالنا المدرجة؟ أبداً. لقد أمسى المسيح عند الغرب فكرة – فكرة مجردة ضمن مشهد، غير أن المشهد فقد كل معناه الجغرافي.
أما بالنسبة لنا، فإن الجغرافية حقيقية ولا مفر منها، فماذا يهمهم إذا تهدمت بيوتنا، وإذا قطعت ألف ليلى إلى أشلاء صغيرة، وحولت أبواب مدينتنا إلى مذابح؟” (صيادون، ص26).
ما يعنيه جبرا هنا أن “قدس المسيح الفلسطيني” متجذرة في الجغرافية والتاريخ والثقافة الإنسانية، وأن المسيح المتمثل في الرواية بشخصية جميل الفلسطيني مخلوق جميل على صورتها ومصنوع من ترابها ليروي قصة دمارها وينتقم لها ويفديها: “وليلى –ليلى ستبقى دون أن ينتقم لها أحد؟ يدها الجميلة مطروحة على حجر بدون ذراع، بدون جسد”. (صيادون، ص25).
وهذا التفسير، يُكسب التبادلية الرمزية بين “ليلى” و”القدس” معنى إضافياً، إذ يعزز صورة القدس كمثال للجمال والحب متأصل في السيكولوجية الجمعية للعرب وتراثهم الأدبي.
فليلى في التراث العربي هي نموذج الجمال الأنثوي والحب الذي ينشده العاشقون الزهاد بناءً على القصة الرومانسية العربية “قيس وليلى” التي مسرحها أمير الشعراء أحمد شوقي بعنوان مجنون ليلى. يذكر جبرا في سيرته الذاتية البئر الأولى، أنه مولعاً بمسرحية أحمد شوقي مجنون ليلى، وأنه في أحد أيام دراسته في المدرسة الرشيدية بالقدس، قرأ لهم إبراهيم طوقان على طريقته الرائعة عن مشهد “ليلى والظبي” من المسرحية، ومن شدة تأثره بالأبيات التي قرأها إبراهيم طوقان، بقيت تلك الأبيات في ذهنه، وعندما بلغ البيت أحذ يرددها مع أخته وأخويه مضيفاً:
حفرنا القبرَ للظبي وقمنا فدفنّاه
وصلينا على الميت وبالدمع سقيناه
فقولوا ولتقل ليلى معي يرحمه الله (البئر الأولى، ص210)
أعتقد أن هذا المشهد (ليلى والظبي) قد أثبت مبكراً في ذهن جبرا، على نحو درامي وتنبؤي متوافق، مشهد مقتل ليلى التراجيدي تحت ركام بيتها الذي نسفه الصهاينة في بداية رواية صيادون، حيث نرى “قيس” (جميل فرّان)، “كالمجنون” يتسلق الأنقاض والحجارة وقضبان الحديد في أمل بائس، يبحث عن “ليلاه” ثم يجلس يبكي على جسدها المقطع.
الجدير بالذكر، أن قول الشاعر وردزويرث الذي يستحضره جبرا في مقدمة البئر الأولى (إن الطفل هو والد الرجل/ وأتمنى أن ترتبط أيامي بعضها بعضاًَ بوصال إلهي) لا يصف فقط منبت التجربة في قربها “لأصل الكينونة”، بل أيضاً ترابط هذه التجربة مع ذات الشاعر الأولى واستمرارها متجاوزة حدود الزمان والمكان “بالوصال الإلهي”. والتجربة الموصولة في ذهن جميل فرّان (الذي هو أيضاً شاعر) هي صورة حبيبته ليلى شاهين وارتباطها بالقدس بصورة سلافة النفوي (حبيبته العراقية) وارتباطها ببغداد، وما الثانية إلا امتداد وتماثل مع الأولى.
بعد النكبة عام 1948، يعيش جميل فران في بغداد، ولكونه حامل شهادة عليا في الآداب من جامعة كيمبردج البريطانية، يعين كمدرس في كلية الآداب بجامعة بغداد وهو الموقع الذي يعزز احترامه ورسوليته الثقافية في المجتمع البغدادي. يدرّس في الجامعة كيتس وشلي ووردزويرث وشكسبير، ويعطي دروساً خصوصية لسلافة النفوي – الفتاة الجميلة الذكية التي يمنعها والدها عماد النفوي من الالتحاق بالجامعة حرصاً على شرف العائلة وتقاليدها.
في هذا الجزء، تتماثل “بغداد المقطعة” اجتماعياًَ وسياسياً مع “القدس المنكوبة” والمجزأة من الاحتلال الإسرائيلي. “فالشارع الضيق” الوارد في عنوان الرواية ومكان سكن جميل والذي يزخر بالعاهرات والقوادين وقناصي الفرص يتماثل مع شوارع القدس الضيقة التي تدنسها أقدام الإرهابيين اليهود. وفي بغداد تدفن سلافة تحت ركام التقاليد الاجتماعية البالية باسم الشرف – الرجال هناك يتصيدون للعاهرات ويصيدون بناتهم وأخواتهم باسم شرف العائلة – وفي القدس تدفن ليلى تحت ركام منزلها. ومع هذا التماثل، تبقى المفارقة المؤلمة في خيال جميل بين صورة القدس/ ليلى/ قدس الطفولة المثالية، وبين قدس الواقع التي يمزقها الاحتلال.
أحد المشاهد المهمة بالارتباط مع المشهد الأخير في الرواية، هو مشهد تدريس مسرحية شكسبير الملك لير بين جميل فران وطالبته سلافة النفوي، حيث يتركز النقاش على “مشهد العاصفة” في المسرحية، ونلاحظ (على طريقة جون كيتس) أن روح ليلى “تنصب” في “سلافة” في سياق النص الشكسبيري، والعاصفة القوية التي تهب على الفلاة ويتعرى فيها الملك لير ما هي إلا إسقاط للعاصفة الشديدة الهوجاء التي تهب على القدس ليلة مقتل ليلى:
“فقبلت فمها (سلافة) فقبلتها قبلة طويلة عنيفة، وأحسست بجسدها رخواً طرياً تحت ذراعي. ورغم أن القهقهة المخيفة في داخلي كانت ما تزال مجلجلة مجنونة، إلا أن يد ليلى التي نسيتها من زمان، بدت وكأنها تسقط فجأة فوق عيني كبيرة ملويةً ميتةً”. (صيادون، ص262).
ولا ننسى أن مسرحية شكسبير الملك لير هي بالدرجة الأولى مأساة الأرض المقطعة والمرأة المظلومة. ومن المثير في هذا السياق أن جون كيتس John Keats في “رسائله” التي ترجمها جبرا إلى العربية قد اعتبر مسرحية الملك لير أفضل مثال على التكثيف الفني الذي تمثله “القوة السلبية” والتي يحقق شكسبير من خلالها الإندماج المطلوب بين “الحقيقة والجمال” أو “الإنصهار” في “الآخر”(7). وهذا ربما يعطي أهمية إضافية لمسرحية الملك لير في تجربة جميل فران، لأنه هو الآخر يسعى إلى حالة الإندماج مع “الحقيقة والجمال” كما تمثلها ليلى والقدس في متخيله الفني، ويبدو أنه قد حقق ذلك مجازياً.
في روايته الثانية، السفينة، يستمر جبرا في تقديم صورة القدس كمدينة المسيح الفلسطيني أو بالأحرى صورة الأرض الجميلة الصلبة التي يعرّف بها الفلسطيني نفسه وتاريخه وجغرافيته وهويته الوطنية، صورة للتماثل الكلي بين الإنسان والأرض. ولكن بينما نرى جبرا في صيادون في شارع ضيق، يركّز على تبادلية صورة القدس ما بين المتخيل والواقع وعلى نضال بطله، شبيه المسيح، جميل فران لاستعادة مدينة “الحلم” نراه في رواية السفينة أكثر مباشرة وتأكيداً وإيجابية في التعامل مع موضوع الوطنية الفلسطينية والقدس كمصدر كينونتها.
تجري الأحداث في رواية السفينة، كما يشير العنوان، في سفينة ركاب في رحلة عبر “المتوسط” من بيروت إلى مدينة نابولي الإيطالية وعلى متنها مسافرون من جنسيات مختلفة بينهم الفلسطيني والعراقي واللبناني والإيطالي والفرنسي. ومع أن الكاتب يوظف أسلوب تعدد الصوت الروائي، إلا أن عصام السلمان (العراقي) ووديع عساف (الفلسطيني) يستحوذان على الرواية كلها ما عدا جزءاً قصيراً ترويه إميليا فرينزي (الإيطالية) تعترف فيه بعلاقتها الجنسية مع الدكتور فالح حسيب، زوج لمى، وتلقي بعض الضوء على عملية انتحاره الغامضة.
يبدو الراوي الفلسطيني وديع عساف (شاعر وقتان) مسكوناً بفلسطينيته وماضي تجربته في القدس، وبخاصة مقتل صديقه فايز عطا الله وفقدان الأرض خلال حرب 1948. ويبدو الراوي العراقي عصام السلمان (شبه وديع عساف) مسكوناً بالأرض التي فقدها أبوه في نزاع عشائري في بغداد ومسكوناً بحب لمى زوجة الدكتور حسيب، فاتنة الجمال ومغرية الرجال، ونكتشف أن انشغاله بحب لمى ما هو إلا إنشغال بحب الأرض. يتبادل وديع وعصام دور الراوي فيندمج صوتاهما وتتقارب تجربتاهما وتتماثل شخصيتاهما لدرجة يمكن الافتراض معها بأن عصام السلمان ما هو إلا “الأنا المتغيرة” لوديع عساف.
وبالمقارنة بين جماليات تمثيل القدس في الروايتين، نلاحظ أن جبرا قد استبدل “الصورة الأنثوية” للقدس في ذاكرة البطل في صيادون في شارع ضيق، “بالصورة الرجولية” في السفينة: ليلى شاهين وسلافة النفوي في تجربة جميل فران، وفايز عطا الله وعصام السلمان في تجربة وديع عساف، على التوالي. ونلاحظ أن كلاً من جميل فران ووديع عساف يتسم بصورة “المسيح الفلسطيني” مع فارق أن جميل يميل إلى تمثيل الجانب الاستبطاني المثالي لصورة “المسيح الفلسطيني” بينما يميل وديع إلى تمثيل الجانب الخارجي العملي، الفدائي الذي يمكن أن يضحي بنفسه لأجل وطنه. من المهم أن نستذكر لغرض هذه المقارنة أن ليلى خطيبة جميل قتلت عندما نسف الإرهابيون اليهود بيتها “وجلس” جميل على الأنقاض “وبكى”، ليؤسس بذلك المشهد الرهيب مسار تجربته الباطنية، بينما قتل فايز على تلال القدس وهو يدافع عن المدينة، ويدفع مشهد استشهاده صديقه وديع بأن يخطط ويحارب فعلياً، حيث يعود إلى أرض المعركة ويقتل عدداً من جنود العدو.
ربما يكون لهذا التحول نحو توظيف الصورة الرجولية في تمثيل القدس في رواية السفينة علاقة بتطور التجربة الوطنية الفلسطينية بعد حرب حزيران 1967، وسقوط باقي القدس وفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي. لقد أشعلت، وللمفارقة، الهزيمة المدوية للجيوش العربية روح الوطنية الفلسطينية وبخاصة في الفترة 1967-1970 التي يصفها الفلسطينيون باعتزاز بالفترة الذهبية “للكفاح المسلح” الذي عزز من ناحيته مفهوم الهوية الوطنية بالتصاقها الحميم مع الأرض ومع صورة “الفدائي الفلسطيني” الذي أنبتته هذه الأرض ليقاتل ويضحي من أجلها. وبما أن رواية السفينة قد نشرت في العام 1970 (الطبعة الأولى) فمن المعقول الافتراض بأن جبرا قد كتبها تحت تأثير تلك العواطف الوطنية الجارفة، إذ يقول في وصف هذه العواطف في مرحلة لاحقة: “أما الانتماء، انتمائي الفلسطيني، فهو انتماء الفلاح إلى ترابه، انتماء المزارع إلى شجرته، انتماء ساكن الشارع إلى شارعه. هكذا أحببت القدس، وهكذا أحببت فلسطين، وأحببت أرضي، حيث سرحت، وهمت، وعشقت، وحملت مع أنني لا أملك شبراً واحداً من الأرض ولكنني أذكر التراب في القدس والصخور في القدس كأنني أذكر جواهر الدنيا. فالانتماء هو انتماء العشق والتداخل وحين تنتمي إلى شيء كذلك، لا يمكن أن تفصم نفسك عنه؛ لأنه هو أنت. إذا لم أكن فلسطينياً فأنا لست شيئاً”. (ينابيع الرؤيا، ص125).
ويعبّر جبرا بصدق عن هذا الانتماء من خلال بطله وديع عساف في السفينة، حيث نرى القدس كمشهد رعوي يتميز بجمال وديانه وتلاله وصخوره ونقاء ينابيعه، ووديع عساف، وكأنه قد قُدّ من صخره، يوحّد نفسه مع القدس والمسيح كطفل، كما تقوله الرواية، ينزل وديع الدرجات الصقيلة إلى أرض كهف “عين سلوان” ليشرب من تلك “العين” التي “شرب منها أول مرة بناة القدس في فجر التاريخ واستمدوا حياة المدينة التي أقاموا على صخورها المتصاعدة تصاعد سلم حجري إلى ذرى الرابية التي أضحت قلباً للقدس” (السفينة، ص58)(9)، يتعرى وديع ويغطس في الماء في نفس “الرحم” ليلمس بيده سرّ ميلاد المدينة” (السفينة، ص59).
إن رمزية “طقوس الميلاد” المتلازمة مع وديع في هذا المشهد تذكر بولادة المسيح في بيت لحم في محيط “عين سلوان” و”بميلاد القدس” (يعزى ميلاد القدس تاريخياً إلى عين سلوان)، كما توحي بفكرة “الثالوث الأقدس” (الأب والابن والروح القدس) التي تشير في الرواية إلى الوحدة المتتامة بين وديع والمسيح ومدينة القدس. فلهم نفس التاريخ والجغرافيا والقيم و”مصنوعون” من الأرض ذاتها.
يقول عصام السلمان في وصف تعلّق وديع بالأرض بأنه لا يمكن أن يكون مجرد هوس صوفي:
“من السهل على من قضى صباه وشبابه في القدس أن يوحد بين الله وبين الأرض- أو كما يقول بين المسيح وبين الصخر. ولكنه يوحد أيضاً بين نفسه وبين المسيح الصخر معاً، فيراها كلها في هذا التمازج الثلاثي الذي إذا اضطرب وتجزأ، كان لا بد من استعادة تكامله من جديد”. (السفينة، ص101).
من الواضح أن جبرا يبني صورة القدس وشغف الفلسطيني بها على فكرة “الثالوث” ولكن على وحدة تضم الإنسان والأرض والإله، وهذا هو أسمى تعبير عن عمق الوطنية الفلسطينية وتوحد عناصرها في الرواية. رؤية رومانسية ولا شك ولكنها الحقيقة عند جبرا.
الهوامش والإحالات
1- Blanche H. Gelfant, The American city novel. Norman of Oklahoma Press, 1970, 9.11.
2- Said, Edward.The Question of Palestine. New York: The New York Times Books, 1979.
3- Williams, Raymond. The Country and the City, New York: Oxford university Press, 1975.
4- البئر الأولى: فصول من سيرة ذاتية. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 2001.
5- جبرا، جبرا إبراهيم. صيادون في شارع ضيق، ترجمة: محمد عصفور، بيروت، دار الآداب (الطبعة الأولى)، 2003.
6- جبرا، جبرا إبراهيم. الحرية والطوفان، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997. أنظر كذلك فيصل دراج.
“جبرا إبراهيم جبرا: الفلسطيني الذي لا يهزم في الثقافة الرسولية، مجلة الكرمل، العدد 54 (شتاء 1998)، 6-26. ترجم جبرا “رسائل” جون كيتس المتضمن المقال المشهور “القوة السلبية” وهو ما يوضح مدى تأثر جبرا بالنظرية الرومانسية للفن.
7- Cf. Bates, Walter Jackson, John Keats. Cambridge, Harvard University Press, 1963.
8- جبرا، جبرا إبراهيم. ينابيع الرؤيا، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979، كما ورد في مقال فيصل درّاج السابق ذكره.
9- السفينة، بيروت، دار الآداب، الطبعة الخامسة، 2008.