لم يكن يتظاهر بالمعرفة وكان يستعير كتب مني
كان يرسم اللوحات وليس فقط الكاريكاتير
المنظمة وراء اغتياله وعلى تواصل مع ابنه خالد
اجرت اللقاء تغريد سعادة
محمد الاسعد، هو الصحفي والكاتب والناقد والشاعر والرسام والروائي الفلسطيني، اضافة الى انه صديق رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي. عملا معا في مجلة الطليعة الحاضنة الاولى لناجي في الكويت في اوائل السبعينيات من القرن الماضي، ثم معا في جريدة السياسية.
فصل من عمله من جريدة السياسة الكويتية بعد ان نشر لناجي كاريكاتير تجاوز فيها الخطوط الحمراء كما يقول، ومتفاخرا بالرسمة سبب فصله وقال عنها ”انها صفعة ممتازة لعرب أمريكا.“ .
في حوار خاص مع ”الكرمل“يحدثنا عن صداقته وزمالته لناجي، وعن اسباب تعرض ناجي وفنه لهجوم كبير من منظمة التحرير الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي، وعن مشروعهما المشترك، وصولا الى اغتياله. كما يحدثنا عن شخص ناجي وطبيعته ومرسمه، وكان ما يلي:
انت من الاصدقاء المقربين من ناجي العلي، تحدثت عنه في كتابك “مديح البياض: الخطاب الفلسطيني الممنوع”، هل لك أن تحدثنا عن هذه الصداقة وعن ظروفها ومداها؟
* في عام 1970، مع بداية عملي في مجلة “الطليعة” الكويتية التقيت بناجي العلي وجهاً لوجه. قبل ذلك كنت أرى رسومه الكاريكاتورية في هذه المجلة ولكن لم يكن لديّ اهتمام خاص بفن الكاريكاتير قدر اهتمامي بفن الرسم والكتابة، شعراً ورواية ونقداً ومقالات سياسية، ربما لأن فن الكاريكاتير كما عرفته منذ أن كنت على مقاعد الدراسة الابتدائية، كان فن تسلية وفكاهة، سواء ما كنت أراه في الصحافة العراقية حيث نشأت أو الصحافة المصرية. ولكن معرفتي بناجي، وخاصة أننا عملنا في غرفة واحدة من غرف المجلة، بدأت تلقي ضوءً على فن كاريكاتير مختلف ذي طابع سياسي بالدرجة الأولى. كان من الطبيعي أن يدور بيننا حديث يبدأ من التعليق على الأحداث السياسية، ثم تتسع دوائره، فيصل إلى الأداب والفنون والتاريخ.. ويعود إلى نقطة المركز، أعني إلى الأحداث اليومية بمختلف تلاوينها، والشخصيات السياسية والكتاب والأحداث الفلسطينية والعربية والعالمية. وبهذا تبلورت في ذهني صورة مختلفة عن مهنة الكاريكاتير، وستتطور هذه الصورة مع الزمن وتكشف لي في ناجي عن شخصية الناقد الأخلاقي، والمحرّر المتطلع إلى الأفق دائماً، كما سأسميه في مقبل الأيام، مع تطور فنه المثير للإعجاب والدهشة في وقت واحد معاً. الأكثر إثارة كانت مصادر إلهامه. يخرج من المجلة ويتجول سيراً على قدميه من شارع إلى شارع ومن زاوية إلى أخرى، ثم يعود مع صورة تكون ارتسمت في ذهنه. ويعكف على حامل الرسم ويعمل بصمت، وبعد أن ينتهي، يضع أمامي كاركاتيراً رسم فيه دبابة تعشش في فوهة مدفعها حمامة، ومكتوب على الفوهة عبارة الهيبيين الغربيين الذائعة الصيت آنذاك Make love not war، وتتناثر على جوانبها صور أزهار، وعلى ظهرها يظهر الرئيس المصري السادات بالزبيبة السوداء فوق جبهته، وفي رقبته “غيتارٌ” معلق بلا أوتار، عازفاً وراقصاً ومنتشياً.. كان هذا في أوائل سبعينيات القرن العشرين، أي قبل زمن طويل نسبياً من رقصة السادات على منصة الكنيست الإسرائيلي. وقال لي ناجي أنه استوحى هذأ الكاريكاتير من مشاهدته في الشارع لسيارة تشبه سيارة هيبيين بشعاراتها المعروفة، فخرج بفكرة السادات الهيبي الراقص على ظهر دبابة.
لم يكن ناجي يتحدث كثيراً، كان أميل إلى الصمت، ويصدر عنه بين الحين والآخر تعليق ساخر. ويخيل إليّ الآن أنه كان يختزن المرئيات والاصوات وما يستخلصه من قراءته ومراقبته لما يحيط به من وجوه وآراء. كان قارئاً ومستمعاً جيداً وإن لم يكن يعلن هذا حتى إثناء نقاش أو حديث. وهذا سرّ غزارة انتاجه الذي وصل إلى رسم أكثر من كاركاتير في اليوم الواحد، في مكتب المجلة وفي بيته على حد سواء.
زماله ايضا في “السياسية”
نعلم أنه انتقل في تلك السنوات للعمل في صحف أخرى.. هل بقيت على علاقة به؟
*بعد خروجه من مجلة الطليعة، حاضنته الأولى، والتي كان يصمم صفحاتها أيضا، في أوائل السبعينيات، وانتقاله للعمل في جريدة “السياسة” وشقيقتها باللغة الانكليزية “Arab Times”، ظلت علاقتنا قائمة، ولم يطل الوقت حتى انتقلتُ أنا إلى العمل في “السياسة” أيضاً بعد إغلاق مؤقت لمجلة الطليعة. وهناك زاملته مجدداً وشهدتُ ما يمكن أن يكون حالة فريدة مر بها فن ناجي؛ رأيت في غرفة محفوظات هذه الجريدة صندوقاً لاتحفظ فيه كاريكاتيراته المنشورة فقط، بل وما “ترفض” الجريدة نشره أحياناً. وهناك تكدست رسومٌ كثيرة له. وعرفت من ناجي أنه بسبب هذا كان يضطر إلى تقديم أكثر من رسم واحد يومياً، حتى إذا رُفض رسم، اعتمدت الجريدة رسماً آخر! وكانت لي حكاية مع هذه الرسوم المرفوضة المكدسة. فحين يكون ناجي في إجازة، يطلب مني مدير التحرير، وكان يومها الصديق مصطفى أبولبدة، إختيار كاريكاتير من صندوق “المحفوظات” للنشر. وأتذكر آنذاك أن موجة الاستسلام للإملاءات الأمريكية كانت طاغية في المنطقة العربية، وكان السادات قد رقص رقصته في الكنيست الإسرائيلي، فاكتشفت بين رسوم ناجي رسماً كاريكاتيراً يعبر عن هذه الحالة تعبيراً دقيقاً؛ كان الرسم تمثال امرأة عارية من رمل على شاطيء البحر يقوم بتشكيله الشخص التقليدي المتكرش الأبله المعتاد (رمز الموظفين الإمعات العرب سواء كانوا رؤساء دول أو حركات سياسية) وعلى خصر المرأة كتبت عبارة “الشرق الأوسط” بالانكليزية، وهناك وبين فخذيها غُرس عمود مظلته العلم الأمريكي. وأخذته فوراً إلى المسؤول عن النشر في الصفحة الأخير. وأتذكر أن مدير التحرير اتصل بي هاتفياً يسأل عن نوع الكاريكاتير الذي اخترته (ربما لأنه كان يخشى أن يتجاوز الكاريكاتير الخطوط الحمراء المرسومة في جريدة السياسة) فطمأنته بالقول أنه كاريكاتير عادي لمخلوق متكرش يشكل تمثال امرأة من رمل على الشاطىء! تجاهلتُ وصف الكاريكاتير كما هو لأنني خشيت أن يمنع نشر ما رأيت أنه صفعة ممتازة لعرب أمريكا وقراءة عبقرية للوضع السياسي العربي. في اليوم التالي وجدت محاسب الجريدة في انتظاري بجوار مكتبي ومعه كتاب استغناء عن خدماتي.

دحبور وموظفي المنظمة شاركوا في شيطنة فنه
حدثنا عن ظروف إبعاده من الكويت الى لندن؟
*تكاد ظروف إبعاده عن الكويت أن تكون معروفة، فلم يكن خافياً أن قيادة منظمة التحرير، أوزعيمها عرفات، المعروف باسم أبو عمار، المتفرد بها في الحقيقة، لأنه لم تكن هناك قيادة جماعية كما توحي كلمة قيادة، يشعر بأن هذا الرسام الذي تفرد بنقد منظمتة ونقده شخصياً، في وقت صمت فيه حتى من كانوا يشاهدون ويعرفون ماذا يُعد لقضية الشعب الفلسطيني من كوارث، سواء ما نزل على وجه الحقيقة في الأردن ولبنان، أو ما ينتظره في مقبل الأيام. كان ناجي العلي رائيا ذا بصيرة غير عادية، أو متنبئاً بدأ يمتعض منه هذا الزعيم وأمثاله، ويرى فيه “محرّراً” للفلسطيني من أساطير وأكاذيب قيادة تقوده إلى استسلام مدبر ومؤكد للإرادة الأمريكية.
كان ناجي يصوب بدقة إلى عدو الفلسطيني، الأمريكي تحديداً، مع عدم نسيانه بالطبع للإسرائيلي الذي كان يعتبره “أزعر” و”لصاً” و “محتالا” في خدمة الأمريكي. وكانت هذه الرؤيا التي حولت الكوميديا من مجرد “سخرية” و”تسلية” إلى رؤيا نقدية مثقفة كاشفة تعري الذين اتخذوا قضية فلسطين تجارة لاغير، تنوّر وتضيء وتفتح الأبصار. وبالتالي “تمنع الشيطان من السيطرة” على حد تعبير الإيطالي “أمبرتو إيكو” في تفسيره لفعل هكذا كوميديا. والأخطر أنها كشفت عن كل هذا التضليل الذي تعرض له الإنسان الفلسطيني مبكراً. وعرفتُ عن قرب ولمست كيف قادت أوساط هذا الاتجاه الأمريكي في قلب منظمة التحرير الفلسطينية، هجمة تشويه وتسفيه لفن ناجي العلي ومقاصده ودوافعه في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وشارك في هذه الحملة توجيهٌ أعرفه جيداً، لأنه صدر ضدي ذات يوم أيضاً ما يماثله، يعمّم على أبواق هذه الأوساط أمراً: “ردوا عليه وعلى من ورائه”!! وجاءني ناجي العلي ذات يوم، وكان بعد أن ترك جريدة السياسة، وذهب إلى السفير، ثم عاد إلى الكويت وبدأ يعمل في جريدة “القبس” الكويتية في عام 1985، يحمل أعداداً من مجلة تصدر في قبرص دأب فيها أحد ندماء بلاط هذه المنظمة وزعيمها هو الشاعر أحمد دحبور على الانتقاص من قيمة فنه والقول أنه “هبط إلى الحضيض لأنه يصوّر الفلسطيني إنساناً مترهلا وبليداً”! متجاهلا عن قصد أن هذه الأشكال التي كانت بارزة في رسومه هي أشكال سماسرة وإمعات وليس “الفلسطيني”. وحضرت شخصياً جلسة هاجم فيها أحد هؤلاء الندماء، وكان الشاعر أمجد ناصر، ناجي زاعماً أنه “باع نفسه للخليجيين في سبيل أن يحصل على المال لأنه مدمن قمار”!
ماسمعته أنه، مع تجمع كل هذا في الجو، ومع تهديد “الزعيم” سابقاً بإذابة أصابع ناجي العلي بحامض الأسيد علناً في خطاب جماهيري في العام 1975، طلبت السلطات الكويتية من ناجي المغادرة، ربما خشية أن تحدث جريمة اغتيال له على أراضيها، مع أنه كان يجد تقديراً عالياً كما عرفت في هذا البلد، وعلى أعلى المستويات. ولم يدهشني آنذاك أن أسمع أن المثقف الكبيرالسيد عبد العزيز حسين الذي عمل وزير دولة هناك، وكان مسؤولا عن تأسيس أكبر مؤسساته الثقافية أهمية (المجلس الوطني للفنون والآداب) يقول عن ناجي “هذا فنان عبقري”.
مشروع مشترك للاطفال مع ناجي
هل بقيت على تواصل مع ناجي حين انتقل الى لندن؟
*بالطبع لم أنقطع عن التواصل معه، ومع رسومه التي واصل نشرها هناك في نسخة “القبس” الدولية. إلا أنني ركزت على ما اقترحته عليه قبل أن يغادر الكويت، وهو أن يساهم في تقديم رسوم إيضاحية لكتب أطفال كنت على وشك إصدارها عن طريق دار نشر حصلت مع صديق كويتي هو الراحل “خليل القناعي” على ترخيص لها في قبرص، أعني دار نشر أناهيد للأطفال. وبالفعل قدم لنا رسماً كاريكاتيرياً معبراً، استخدمه تحية لصباح بيروت، على شكل طفلة تطل من تجويف من الواضح أن قذيفة مدفعية أو طائرة أحدثته، على “حنظلة” الطفل الخالد الذي كان وظل بمثابة أيقونة لفن ناجي وأصبح في أيامنا أيقونة حركات احتجاج وتحرر ومقاومة في أنحاء متفرقة من العالم، وهو يقف على بقايا قذيفة مدفعية مقدما إليها وردة قائلا “صباح الخير يابيروت”. وحولنا هذا الرسم إلى غلاف لأول مطبوعة أصدرناها، وحمل عبارة أكثر عمومية من بيروت، عبارة “صباح الخير ياوطني”.
شرحت عن زيارة لك الى مرسمه في كتاب مديح البياض، هل لك ان تحدثنا عنها؟ اين كان يسكن ؟وهل المرسم بنفس البيت؟ صف لنا المرسم وروسوماته؟ وهل تقتني احدى رسوماته؟
*كانت هذه الزيارة بدعوة منه إلى الشقة التي كان يسكنها مع عائلته في إحدى ضواحي الكويت، في عام 1985. أدخلني إلى غرفة، أعتقد أنها هي مرسمه البيتي، فيها مجموعة من رسومه، إلا أنها لم تكن كما رسومه المعتادة، أعني باللون الأسود والأبيض، بل كانت رسوماً ملونة بألوان خفيفة، تميل إلى اللون الأخضر والأزرق والبرتقالي، فسألته لدى رؤيتي أعمالا له من هذا النوع لأول مرة، مبدياً اعجابي، ماهذه الألوان؟ هي ليست زيتية، ولا مائية، ولا من أي نوع أعرفه؟ فقال لي “كل هذه الألوان من مادة النفط الخام هذه”، وأشار إلى برميل صغير في زاوية الغرفة. بالطبع عجبت من كيفية استخراجه ألواناً من مادة معتمة مثل هذه اعتدنا على “الزفت” اسماً لها، وهو الاسم الذي يستخدمه الفلسطينيون في وصف حياة بائسة بلا أمل. وتذكرت سطراً لشاعر لايحضرني اسمه يبدأ قصيدة شكوى مُرّة بالقول “حياةٌ كلها زفتُ/ فلا شنصٌ ولا بختُ”، وأتذكر أن ناجي قال لي آنذاك وأنا أردد هذا السطر “أنا أجرب التعامل مع هذه المادة الرخيصة، بدل استخدام الألوان الباهظة الأثمان”.
وتبادر إلى ذهني فوراً أنه في سبيله إلى ممارسة فن رسم لوحات هذه المرة، ولن يظل سجين الكاريكاتير الصحافي، وخاصة حين لمحت في إحدى زوايا الغرفة لوحتين مرسومتين على قماش كأنهما رسمتا بألوان زيتية. صورة المرأة الحانية على طفلها، والأخرى صورة امرأة تحيط برأسها ما يشبه الهالة التي ترسم حول وجوه القديسين عادة، ويتدلى على صدرها مفتاح بيت.
أما عن اقتناء لوحات له مما رسم بمادة النفط، فلم يحدث هذا لأنني انتظرت أن تتبلور هذه التجربة، ولكنني احتفظت برسوم وتخططيات أصلية من رسومه الكاريكاتيرية، بعضها مكتمل وبعضها لم ينته من رسمها، ومصدرها ذلك الصندوق في جريدة “السياسة”.

هل لديك صورة تجمعكما معاً؟
*يحز في نفسي أنني لم ألتقط صورة تجمعني به، فلم أكن أفكر أننا لن تبقى لنا سوى الذكريات وأنا منغمرٌ في حياة بدت لي آنذاك خالية من أي إحساس بالفقدان لا في الحاضر ولافي المستقبل. كانت حياة ممتلئة لامكان فيها لالتقاط صور.
تواصل مع الناس والاحداث
كنت قريباً منه، هل لك ان تصف لنا ناجي كشخص، مثقف عالي او واعي او الاثنين معا، او هو عفوي وتلقائي، أحيانا الشجاعة هي التي تميز الشخص عن الاخرين، وليس انه الاكثر معرفة. ناجي من اي فئة؟
*لمستُ رغبته العارمة في المعرفة، قراءة واستعلاماً، ولكن التأمل الصامت كان ربما أهم ميزاته. لم يكن يحب التظاهر بأنه يعرف أو يقرأ، مع معرفتي أنه كان كذلك، ولاأنسى أنه كان يستعير كتباً تلفت نظره مني أو من مكتبة الطليعة، ولكن الغريب أنه لم يكن يهتم بذكر شيء من هذا في جدل أو نقاش. هو لم يكن يكثر الجدال، ويبدو أنه كان ينفر من الكلمات، مشغولا بالصور فقط .وأذكر أنه كان أكثر اهتماماً بملاحظة كيف يسلك الناس من حوله، ويتدخل أحياناً بكل بساطة وتلقائية، مثلما حدث مرة ونحن في أسبوع ثقافي فلسطيني في قطر في عام 1982 قبل الغزو الصهيوني للبنان بشهور قليلة.
كنا مجموعة مختارة لتمثيل الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، معنا غالب هلسا ومريد البرغوثي وآخرون تغيب أسماؤهم عن ذهني الآن، ساهرة في إحدى غرف الفندق الذي استضافونا فيه، فدخل ناجي واحتج على “هذه العزلة التي نفرضها على أنفسنا” وترك الإخوة القطريين، كتابا وفنانيين مشاركين في هذا الأسبوع من دون التعرف عليهم، وتناول صينية فاكهة كانت أمامنا وحملها وهو يقول “هيا.. ورائي”، وخرج ونحن وراءه إلى أن وصل إلى غرفة، فدخل ودخلنا، وهناك اكتشفنا عددا من القطريين المشاركين في الأسبوع الفلسطيني، وأكملنا السهرة معهم. بهذه البساطة كان يتصرف. كانت إقامة صلة بين الأحداث والناس والمواقف سمة بارزة من سمات فنه، إما صلة تكشف التناقض أو صلة تكشف عن التواصل الحميم، وهي في الحقيقة مامنح رسومه قدرتها على الإدهاش حتى قبل إعمال الفكر.
أعتقد أنه كان يفضل أن تتجسد شجاعته في مايرسم، في زاوية التقاط المشهد الفلسطيني من دون أن يضع في اعتباره أو يحسب حساب أي رد فعل أي جهة. كان وعيه حاداً يصل إلى مستويات قل نظيرها في إدراكه السريع لمعنى الحدث الذي يشهده أن يسمع به، وأستطيع تشبيه هذا الإدراك بما يشبه الحدس الفوري الذي سيبدو عفوياً وتلقائياً، بينما هو في الحقيقة نتيجة اختمار طويل الأمد. كنت أشعر أحيانا، ومازلت أشعر وأعرف يقيناً، أن مرد هذا إلى أنه مثقف من نوع نادر أشبه بطير نادر لم يعرفه قفص من الأقفاص، برّي غير مدجن بأي طريقة من الطرق. وأتخيله فناناً يراقب حتى وهو يتحدث معك ما حوله، يقظاً واعياً بكل ما يحيط به مثل مقاتل ساموراي عيناه ثابتتان على خصمه الذي يواجهه، ولكنه لايترك لشيء حوله أن يصرف نظره عنه.
المثقف الحر و نبات الظل
تحدثت في كتابك عن المثقف العصامي الذي يعتمد على نفسه وذكرت سميرة عزام وغسان كنفاني وناجي العلي، وهناك في المقابل المثقف في الظل، ولمنظمة التحرير كان لها مثقفوها ورجالاتها، هل لك ان توضح ذلك؟
* وضعتُ في مقابل هؤلاء المثقفين، الذين بنوا شخصياتهم ومكانتهم معتمدين على أنفسهم وسط عواصف الحياة، مثقفين تحولوا إلى “نبات ظلّ” لا مثقفين عاشوا في الظلال. هذا الصنف الثاني الذي وجدت أن حاله يشبه حال نبات الظلّ المنزلي، أو النبات المعترش الذي يعتمد وقوفه على حائط يتسلقه، أو أي وسائل أخرى من ركائز أو أعمدة. ما عنيته بالتحديد، أن المثقف الشبيه بالنبات الذي ينمو في الهواء الطلق، فيتعرض لكل ما تتعرض له الكائنات من عواصف ومتاعب سواء سببها الإنسان أو المناخ، يكون إنساناً “حراً” بكل ما تعنيه كلمة حرية، لاتستعبده رغبات هذه الجهة أو تلك، أو هذا الفصيل أوذاك. الحرُّ لايوجهه إلاّ ضميره الخاص والرؤية التي تكشفت له. على العكس من هذا، يحتاج المثقف الشبيه بنبات الظلّ إلى رعاية خارجية، إلى من يروّج له، أي يسوّقه بتعبير أدق. ويحافظ على حساسيته الفائضة تجاه الخارج، يحميه من عواصفه ومتاعبه، فتتكون له طبيعة خاصة هي طبيعة الإنسان الخانع المختلفة عن طبيعة الإنسان الحرّ. والملاحظ أن هذا النوع من المثقفين يحسد المثقف الحرّ الخارج على هذا النوع من الإلزامات، ويتمنى أن يكون مثله. قال لي هذا صراحة مثقف فلسطيني التقيت به في قبرص حيث عشت هناك لمدى ثلاث سنوات. كانت المناسبة أنني انتقدت تناقضاً يعيشه، فهو ينطق في حديثه المسائي معي بآراء نقدية رائعة وواعية بوضعية قيادة تأخذ الفلسطيني من متاهة إلى أخرى، وأقرأ له في الصباح مقالة منشورة تناقض ماقاله بالأمس، يكيل فيها المديح لهذه القيادة!. أمثال نبات الظلّ هذا، غير الأحرار، هم الذي تكيفوا مع مناخات بلاط دافعي تذاكر سفرهم، ومكافآتهم التي تصلهم شهرياً. والسبب كما يقال بوضوح بات: لأن المطامع تذل أعناق الرجال. يقول الصينيون الذي ينصتون حتى الآن إلى تعاليم ماوتسي تونغ: من كان ذا مطامع خاصة فليعمل في مجال آخر يخدم مطامعه غير مجال الخدمة العامة. وكنا نقول شيئاً شبيهاً بهذا في تلك الأيام: من يسعى إلى مرعى خاص به فليذهب إليه من دون أن يتعكز على ثورتنا ومقاومتنا، أو يتسلق ظهرها ليأخذها إلى مرعاه الخاص.
هل تعتقد ان منظمة التحرير أثرت سلباً على مستوى الثقافة الفلسطينية والتي انعكست من جانبها على مستوى الثقافة العربية؟ فلسطين دائما كانت النموذج. وكيف تفسر ايمان الكثيرين بابداع محمود درويش، والذين ذكرت أنه من الذين عاشوا في المنظمة مثل “نبات ظلّ”؟
*الحكم في المسائل الثقافية ليس من شأن منظمات أو أحزاب أو حكومات. ولكن ما حدث عندنا بالنسبة للمثقف على الصعيد الفلسطيني، كما على الصعيد العربي، إن مثقف منظمة التحرير كان كائناً من نوع خانع عجيب، كما وصفه الراحل غالب هلسا، التحق بهذه بالمؤسسة، وأصبح وسيطاً بينها وبين الجمهور الفلسطيني، وظيفته المساهمة في تلميع صور قياداتها واتجاهاتها وخطاباتها، بل وكان بعضهم يُرغم على القيام بهذه الوظيفة لقاء “الحسنات” التي ينالها بحكم الرباط الذي يشده، أو الطمع في تسليط الضوء عليه، وتقديمه كممثل وحيد للثقافة الفلسطينية، في الداخل والخارج.
قد لايصدق كثيرون، ما دمتِ ذكرتِ الراحل محمود درويش، أن هيمنته على مخيلة الفلسطينيين، وبعض مثقفيهم الذين لايتوقفون عن ذكره بمناسبة ومن دون مناسبة، سببه الرئيسي “ترويجه” بشكل غير معقول، وليس إدراك إبداعه، لأن الإبداع آخر مايهم هذه المؤسسات، ولأن المبدعين الذين طمس ذكرهم عباقرة التسويق هؤلاء كثيرون. وكانت الأحزاب العربية قبل منظمة التحرير تحرص على القيام بهذه الوظيفة المماثلة تماماً لما يُدعى في الاقتصاد الرأسمالي “التسويق” أو Marketing. وشهدتُ شخصياً في عدة مناسبات أمثلة على أساليب “تسويق” من هذا النوع. ذات يوم، وكنت آنذاك عضواً في الهيئة الإدارية لفرع اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين في الكويت، وخلال أمسية أقمناها في ذكرى استشهاد غسان كنفاني، فوجئنا ومعنا جمهور الحاضرين بموظفين في منظمة التحرير يقتحمون القاعة ويضعون أمامنا ونحن نتحدث جهاز تسجيل يبث قصيدة بصوت محمود درويش من دون أي مبرر. وفي مناسبة أخرى شهدتُ كيف أخرج درويش من جيبه شريط تسجيل لأمسية له كان أقامها في بغداد وسلّمه لرسول جاء للقائه في الفندق من مكتب المنظمة وسمعته يقول له بالحرف الواحد “إذهبوا..إنسخوا ووزعوا”. وأعتقد أن هذا ما كان يحدث في مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية حول العالم التي كان موظفوها يسخرون لاستنساخ وتوزيع أمسيات من أعطوه سلفاً لقب “شاعرنا” أو “شاعر فلسطين” بمئات وآلاف الأشرطة وتوزيعها، في وقت منع فيه مكتب هذه المنظمة في الكويت ناجي العلي من المشاركة برسومه في معرض أقامته بمناسبة “يوم الأرض”، فاضطر إلى عرض رسومه في قاعة معرض آخر أقامه فنانون كويتيون، تصدرته منحوتة صبرا وشاتيلا للفنان سامي محمد.

الفدائيون كانوا قبل فصائل المنظمة
نتفق ان المنظمة كانت تسير باتجاه عملية السلام رغم كل الشعارات الثورية، كيف تعتقد انها نجحت في استقطاب فلسطيني وعربي وحتى عالمي؟ هناك الكثيرين ممن دعموا القضية، وكانوا يعتبرون ابو عمار عنواناً للنضال، أنت عشت المرحلة منذ البدايات، وتابعتها، كيف تفسر هذا النجاح؟
*بالنسبة لنا كفلسطينين تناهت إلى أسماعنا أخبار “المقاومة الفلسطينية” في ستينيات القرن الماضي كما يتناهى خبر وصول سفينة إنقاذٍ إلى غرقى. ففلسطين مُسحت عن الخريطة ومن الوعي لسنوات طويلة، ولم يسمح للفلسطيني بأن يفعل شيئاً لقضيته إلا إذا التحق بهذا الحزب أوذاك، أو بهذه الحكومة أو تلك. لم يكن يسمح للفلسطيني بالخروج من تحت أضواء أبراج المراقبة العربية، أي أن يكون مستقلا. وأتذكر أننا في العراق لم نكن نُعرف إلا بالاسم المجرد “اللاجئون”، من دون ذكر هويتنا كفلسطينيين. لهذا السبب وجد الفلسطينيون ضالتهم في أي حركة تبدو أنها تحررهم من الارتهان، بل وتدعوهم إلى الكفاح المسلح لاسترداد الوطن.
قبل أوسلو، وطوال ما يقارب خمسين عاماً من خداع مارسه المخادعون على الشعب الفلسطيني، على حد تعبير الكاتب الفلسطيني محمد دلبح المقيم في واشنطن، استقطبت منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها وعداً في الظاهر بأن يتولى الفلسطيني مسؤوليته عن قضيته، الغالبية العظمى من الفلسطينيين. أما الاستقطاب، عربيا وعالميا، فلم يكن مصدره هذا التنظيم أو ذاك بل الحركة الفدائية، وأصر على هذه التسمية، التي ولدت قبل كل فصائل منظمة التحرير، وتواصلت، أعني أن التضحيات الجسام التي قدمها الفلسطينيون، وخاصة اللاجئون المشردون في مخيمات الأردن وسوريا ولبنان وغزة، والمقيمون في العراق الذين ظلوا مجهولين حتى بعد تشريدهم على يد مرتزقة أمريكا والموساد من العراق بدءاً من العام 2003، هي التي لفتت الأنظار إلى فلسطين وقضيتها والمتضامنين معها. ومنذ ذلك الزمن جرت في النهر مياه ومياه. كان زمناً شهدتُ فيه بنفسي عمالا فلسطينيين فقراء يتركون عملهم هنا وهناك ويكتبون في كتب استقالاتهم “نحن ذاهبون للالتحاق بفتح”! وهم لم يعرفوا بعد ماهي فتح هذه. كان التحاقهم بهذه الحركة نتاج الترويج الطاغي لاسمها، وبسبب ما توفر لها من إمكانيات مالية، وبما كان يجري من بطولات تنتحلها (انتحال بطولة الجيش الأردني في معركة الكرامة، وانتحال عملية القوات الخاصة المصرية المعروفة باسم “عملية إيلات”). نجاح النضال الفلسطيني حقيقة ماثلة لاأحد يستطيع إنكارها، واستقطب جماهير عربية وعالمية، ولكن وراء هذا تضحيات الآلاف من أبناء شعبنا، وليس وراءه من انتحلوا بطولاته وخدعوه ونصبوا الشراك لمقاتليه، وأعلنوا “الاستسلام” باسمه للعدو الصهيوني حين بلغوا سن اليأس.
التصهين والجوائز الادبية
نتحدث عن الجوائز في الادب، ولقضية فلسطين النصيب الاكبر في شرعنتها، هذا ما نراه ونتابعه، ورأينا أن بعض الاسماء التي حصلت على جوائز من خلال تشويه الانسان الفلسطيني وتمجيد الشخصية اليهودية، بمعنى أن هذا فقط كان كفيلا للفوز بالجائزة، ونحن لا نتجنى اذا قلنا ان الروايات التي فازت كان منها مستوى ضعيف في بنية الرواية ومستوى اللغة، هل تراه أمر متعمداً ومقصوداً أم تعاطفاً من اللجان مع القضية الفلسطينية؟
*ماشرعن هذه الجوائز، أي ما جعل حصول فلسطينيين أو غيرهم عليها أمراً متواتراً، ليس “فلسطين”، بل هو بالتحديد تقديم هؤلاء الذي مُنحوا هذه الجوائز الأدبية ماهو مطلوب لدى دوائر عربية “تصهينت”، وصار مطلوباً منها أن تساهم من جانبها، بأموالها بالطبع، في تشكيل عقلية العربي، والفلسطيني بخاصة، بحيث يقبل وجود المستعمرة الصهيونية، ليس على أرض فلسطين فقط، بل وفي نسيج الوطن العربي. تشويه الفلسطيني، كما تبين من روايات فازت بالجائزة المسماة “البوكر العربية”، في مقابل أنسنة الصهيوني القاتل ومغتصب الأرض، هو حلقة في سلسلة ما دعاها الصديق الفنان ابن القدس “ستيف سابيلا” المنفي الآن في ألمانيا، استعمار الوعي والمخيلة. بالطبع كل هذا مقصود، وتعمل له الدوائر الصهيونية وكلاب صيدها الذين تستخدمهم في فلسطين وخارج فلسطين. لهذا السبب أرى أن مهمة الأدب والفن الآن، كما كانت في كل العصور، ومهمة الأدب والفن الفلسطيني على وجه الخصوص، هي تحرير وعي ومخيلة الإنسان الفلسطيني من شتى صنوف الاستعمار التي تمارس الآن، وخاصة عن طريق سلطة استقدمتها إسرائيل وظيفتها التعاون مع المحتل، ومحو ذاكرة الإنسان الفلسطيني، ومحو وطنه بالتالي.
نحن نتذكر لأننا نريد أن نحيا. ولهذا السبب أطلقتُ على ما أرى أنه أنقى فنان فلسطيني، أعني ناجي العلي، لقب “المحرِّر”، بل وذهبتُ في تفسير مصطلح “التطهير” الذي أطلقه أرسطو في حديثه عن أثر الأعمال التراجيدية على المشاهد في كتاب الشعر منذ زمن سحيق، إلى أن جوهر ما عناه هذا الفيلسوف هو “التحرير”.
الكاريكاتير القاتل
في العودة الى موضوع ناجي العلي، كمتابع لعملية الاغتيال التي لم تتضح اي معلومات عنها، ولكنك ذكرت بما يشير الى تحميل منظمة التحرير ولعرفات المسوؤلية، لماذا هذا الاستنتاج؟
*هذا الاستنتاج جاء من جملة أحداث رافقت تهديد ناجي العلي وتحذيره من قبل أشخاص لهم ارتباطات وظيفية بمنظمة التحرير، مثل أبو أياد الذي يقال أنه طلب منه الخروج من لندن والاختفاء، ومثل محمود درويش وبسام أبو شريف اللذين ذكر ناجي بالاسم أنهما حذراه وطلبا منه التوقف عن نقد “زعيمهم” لأنه لم يعد يتحمل ما يرسمه، والحملة الضارية التي تعرض لها والتشهير به من قبل أوساط محسوبة عليها، وأشرت إلى جوانب منها، ومن تقارير الشرطة البريطانية التي داهمت أوكار فلسطينيين في لندن من أتباع منظمة التحرير، فور وقوع الاغتيال، كما ورد في تغطيات صحف بريطانية، وخاصة صحيفة الديلي ميل التي عنونت تحقيقاً موسعاً عن الإغتيال بعبارة “الكاريكاتير القاتل” في الإشارة إلى الكاريكاتير الذي أرفقته بهذا التحقيق، وفيه يسأل الفلسطيني اللاجيء أحد الكائنات المتخمة والمتضخمة البلهاء “هل تعرف رشيدة مهران؟” فيرد هذا “لا”.. ويكرر سؤاله مرتين، والإجابة المتكررة هي “لا”، فيصاب اللاجيء بالغيظ ويشد بقوة ربطة عنق هذا الأبله صارخاً ” ما بتعرف رشيدة مهران ولا سامع فيها!! فكيف صرت عضو بالأمانة العامة للكتاب والصحفيين الفلسطينيين؟ لكان مين يللي داعمك بهالمنظمة يا أخو الشليتة!!”
وعرف فيما بعد أن رشيدة مهران هذه كانت صديقة عرفات المتنفذة في منظمة التحرير، ولم يكن أحد يجرؤ على كشف أمرها، وقيل أنها صاحبة كتاب عنوانه “عرفات إلهي”. فكان هذا الكاريكاتير الذي فضح ما يدور في غرفة نوم ما كانوا يدعونه “الختيار” سبب كافيا لإغتيال ناجي.
هل تتواصل مع عائلة ناجي العلي حتى الان؟ وماذا يقولون عن اعادة فتح التحقيق في قضية اغتياله، والى اين وصل الامر؟
* لا علم لي بما يقولون عن إعادة فتح التحقيق في قضية الاغتيال، ولا أعرف ما توصلت إليه الشرطة البريطانية، أو ماذا أضافت إلى ملفها. تواصلي هو مع ابنه خالد، لأنه يطلب مني بين الحين والآخر رأيي في ما يعرض عليه من رغبات في استخدام الأيقونة “حنظلة” في مطبوعات هذه الجهة أو تلك. أو في طلبات بعضهم الإذن باستخدام رسوم ناجي في كتب يرغبون في طباعتها، بالإضافة إلى أنه يرسل لي نصوصاً يكتبها ناشر من الناشرين سيرفقها مع الرسوم لأطلع عليها. وهذه طلبات أقدرها تقديرا عالياً منه، لأنها تدل على احترامه لتراث والده، سواء بطلب مشورة من عرفه، أو طلب كتابة مقدمات لمطبوعة تصدر بالفرنسية أو الإيطالية أو أي لغة أخرى من اللغات التي صدرت فيها كتب وكتيبات تضم أعمال ناجي العلي، مثل المقدمات الخمس التي كتبتها لكتاب “كتاب حنظلة” الذي صدر باللغة الفرنسية في باريس في عام 2011.
اعمال خالدة
-في كتاب “مديح البياض: الخطاب الفلسطيني الممنوع”، أوضحت الخطاب الفلسطيني السائد وهو بالمناسبة يتناغم مع الخطاب العربي الرسمي، والمفارقة في كل عام أننا نشهد تفاعلا كبيراً في ذكرى اغتيال ناجي العلي، كيف تفسر هذا، بمعنى سيطرة خطاب استسلامي واضح ورغم ذلك نرى أن الجميع يتحدث عن ناجي كنموذج ومثل أعلى؟
*لا علاقة بين الأمرين، أمر الخطاب الاستسلامي سواء كان “عربياً” أم “فلسطينيا”، وأمر الاحتضان الجماهيري الواسع لناجي واعتباره نموذجاً ومثلا أعلى. ناجي مثقف عضوي أي من المنخرطين في قضايا الشعب العربي التحررية، والإنسانية عموماً، ولهذا من الطبيعي أن يحتل هذه المكانة التي احتلها، ومن الطبيعي أن يرى فيه فقراء هذا الوطن، وهم الأغلبية الساحقة، لسان حالهم. بالإضافة إلى أنه كان يتطلع إلى الأفق، لا إلى ما تحت قدميه وحوله، وبهذا اكتسبت أعماله سمة خالدة لايمحوها الزمن. ومن يتطلع إلى الأفق يراهن على المستقبل، فيصبح هادياً ومحرراً لأجيال في المستقبل لم يعرفها ولا عرفته عياناً، كأنه روح ملهمة تظل حية تلهم الأجيال جيلا بعد جيل.
أما هذا الخطاب الاستسلامي فمن الخطأ إطلاق تسمية “عربي” أو “فلسطيني” عليه بهذه العمومية. أولا، لأنه خطاب شراذم، ولا شعبية لهذه الشراذم، سواء لدى غالبية العرب أو غالبية الفلسطينيين، وثانيا، هو خطاب لحظي لامكان له في المستقبل حتى وأن تخيل أصحابه أنهم منتصرون. لأن الاستسلام نسيانٌ عميق للوجود، واستهانة غبية بسنة الله في خلقه؛ أعني أن الإنسان عند الله أكرم من أن تستبد بأموره النطائح والمترديات، ويستمر في خداعه أرذل البشر.

فنون الادب
خضت تجربة في الشعر والرواية وفي النقد والترجمة الفن التشكيلي، تتعدد مواهبك، أين ترى نفسك أكثر؟ وايا منها تراه الاكثر اهمية؟
*تطورت رؤيتي لنفسي عبر الزمن، وكذلك تطور الجانب الذي أراه أكثر أهمية. في البداية كنت أرى نفسي في الفن التشكيلي والشعر معاً، ثم بدأت أرى نفسي في النقد، وبعد ذلك في الرواية بدءا من عام 1987، فالشعر مجدداً بعد أن أصبحتُ أميل إلى شكل شعري مختلف، رؤيا وتقانة، عن أنماط الشعر العربي، العمودي التقليدي، والشعر الحر (شعر التفعيلة) وقصيدة النثر، هو الشكل الياباني المسمى “هايكو”. كل هذه التجارب مهمة، ولا أجد سبباً لتفضيل تجربة دون أخرى. ولعل ميلي إلى الهايكو اليابانية التي نشرت أكثر من مجموعة كتبتها في ظلالها، أساسه ممارستي للفن التشكيلي، أي وعي البصري وقراءاتي وترجمتي لدراسات ونصوص من اللغات الأجنبية.
إذاً، هذه التجارب، كما أعتقد، تمازجت في كلية جديدة، وأصبحت في تعدّدها أشبه بلوحة مزج الألوان التي يستخدمها الفنان التشكيلي حين يرسم لوحة من لوحاته. وأحب أن أضيف أنني مارست هذه التقانة التي هي تقانة تشكيل لوحة باستخدام عدة ألوان، قبل أن أكتشف وصفاً لها في مقدمة للروائي الأمريكي “ترومان كابوتي” لمجموعته القصصية “موسيقى من أجل الحرباوات” (1985). في هذه المقدمة تحدث كابوتي عن مروره بأزمة إبداعية، حين أكتشف بعد سنوات طويلة من كتابة قصص وروايات، إنه لم يكن يستخدم كل ما يجب أن يستخدمه الكاتب من طاقات. فهو يشاهد مسرحاً ويستمع إلى موسيقى ويقرأ شعراً وروايات..إلخ، ولكنه حين رجع إلى كتاباته السابقة، اكتشف أنه لم يكن يستخدم من هذه التجارب والمعارف الشبيهة بألوان على لوحة مزج الألوان بين يدي الرسام، إلا القليل. ولهذا بدأ يفكر، وهو في أيامه الأخيرة، أن عليه حين يكتب أن يستخدم كامل ألوان لوحة المزج في انتاج نص أيا كان جنسه.
وفي ضوء هذا يمكنني القول أن كل ماجربته من أنواع أدبية، وما عرفته خلال جولاتي في الجغرافية البشرية والطبيعة، له لدي الأهمية ذاتها، وأنني أجد نفسي بالفعل في هذا المزيج الكلي الذي استخدمه في كتابة أي نوع أدبي، سواء كان قصيدة أو رواية أو مقالة نقدية أو بحث.

تجربة ودروس
بعد كل هذه الخبرة ما هي نصيحتك للكتاب والمثقفين الشباب؟ وما هي الدروس التي خرجت منها بعد كل هذه التجربة؟
*يبدو أن ماذكرته آنفاً عن تقانة لوحة مزج الألوان سيكون هو نصيحتي الأولى للكتاب والمثقفين الشبان في ما يتعلق بالتقانة. أقول هذا لأن الكشف عن هذه التقانة في ما أكتبه من مقالات وروايات وقصائد، قبل أن يكتشفه أحد الأصدقاء من المتابعين لي ويدهشه إلى درجة تفوق الوصف، اكتشفته بنفسي وذهلت من جانبي. لم أكن أعرف ما أفعله، ويبدو تلقائيا وعفوياً بينما هو نتاج خبرة وتجارب لاتحصى، ولم أكن أعرف سبب العمق الذي يحس به بعض من يقرأ لي في ما أكتب، ولكنني وقعت على تفسير له فجأة حين قرأت وصفه في مقدمة “كابوتي” التي ذكرتها.
النصيحة الثانية وتتعلق بالأولى في الوقت نفسه، أن يخرجوا من القواقع التي يولد فيها الإنسان في وطننا العربي، أعني أن يخرجوا إلى العالم من حولهم، وأن يهتموا بكل ما يهم الإنسان في أي مكان، وأن يجعلوا هذا الإنسان يهتم أيضاً بما يعنيهم ويهمهم. الخروج من القوقعة يعني التجوال في الجغرافيات الثقافية والإنسانية والطبيعية، والمهم أن يكون الأفق أمام أعينهم دائماً.
الاسعد في سطور:
شاعر وروائي وناقد ورسام وباحث في الآثار.
ولد في قرية أم الزينات على السفح الجنوبي لجبل الكرمل الفلسطيني المطل على ساحل حيفا في 6 أغسطس 1944.
في العام 1948 هاجرت عائلته الى العراق واستقرت في البصرة بعد النكبة.
أتم تعليمه الثانوي في البصرة، ثم التحق بجامعة بغداد، كلية التجارة والإقتصاد (1962) وانتسب إلى معهد الفنون الجميلة تحت إشراف الرسام العراقي الكبير إسماعيل الشيخلي.
بعد (1967) انتقل إلى الكويت، وبدأ حياته العملية في الوسط الصحافي.
له اهتمامات متعددة، جمعت بين الكتابة الشعرية والنقدية والروائية والبحثية والترجمة من اللغة الانكليزية، بالإضافة إلى أنه كان الأبرز بين من قدموا شعر الهايكو الياباني إلى القاريء العربي.
في عام 1990، نشرت دار رياض الريس للنشر في لندن أول رواية له عنوانها “أطفال الندى“.
ترجم بعض من شعره إلى الفرنسية والإنكليزية.
قائمة اصداراته طويلة بين الترجمات والابحاث والرواية والنقد والشعر.
يستقر حاليا في الكويت.
ويكتب مقالات في عدد من الصحف العربية.