حوار أنقرة ودمشق: آفاق وتحديات

Share on facebook
Share on google
Share on twitter
Share on linkedin

عدنان بدر حلو

  ما من شك في أن الحوار التركي -السوري الذي يتم برعاية ووساطة ومشاركة روسية، وكانت أبرز محطاته اجتماع وزراء الدفاع الثلاثة في موسكو بتاريخ 28/12/2022، يشكل اختراقا كبيرا في سياق الأزمة- الحرب التي تعصف بسورية منذ مطلع عام 2011، وقد يفتح أفقا كبيرا للخروج منها بعد أن بلغ الاستعصاء أقصى مداه.

غير أن قراءة هذا الحدث واحتمالاته تتطلب مراجعة للوضع الراهن في سياق المواقف الاستراتيجية للأطراف الفاعلة فيه والتي تقاطعت مساراتها، تفاعلا أو تصادما، في أكثر من منطقة، وخاصة في الشمال السوري.

    عندما نشر الصحافي الإسرائيلي والموظف السابق في وزارة الخارجية عوديد ينون مقاله الشهير في عدد شباط 1982 من مجلة “كيفونيم” (الاتجاهات) تحت عنوان “استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات”، لم يستوقف كثيرين ما ورد في ذلك المقال من استشراف لمستقبل قريب يجري فيه تدمير العراق وسورية وحتى مصر والأردن ناهيك عن تونس وليبيا والسودان وحتى الجزائر.  

يقول عوديد: “إن الشرق الأوسط في ظل بناه الحالية لا يمكن أن يستمر دون أن يتعرض لتغييرات جذرية. فالعالم العربي -الإسلامي لا يعدو أن يكون قصرا من الورق بنته القوى الأجنبية وقسمته بشكل تعسفي إلى تسع عشرة دولة تتكون كل منها من مجموعات عرقية مختلفة وأقليات متصارعة فيما بينها“.

وبعد أن يتحدث عن الأوضاع الداخلية في معظم البلدان العربية يقول:

“إن تقسيم لبنان إلى خمس مقاطعات يرسم صورة المصير الذي يجب أن ينتظر العالم العربي بأجمعه. بما في ذلك مصر وسورية والعراق وكل شبه الجزيرة العربية. فهذا التفكك يعتبر أمرا واقعا في لبنان اليوم، وتفتيت سورية والعراق إلى مناطق متجانسة عرقيا أو طائفيا يعتبر هدفا أساسيا لإسرائيل على المدى البعيد، أما هدفها على المدى القريب فهو ضرب القوى العسكرية لهذه الدول وتفتيتها”.

 إطلالة سريعة على الأوضاع العربية الراهنة بعد أربعين عاما من ذلك التاريخ تؤكد بما لا يقبل الشك أن الأطماع الصهيونية التي كان يستشرفها ذلك المقال قد تحولت بالفعل إلى وقائع ماثلة أمامنا بشكل صارخ!

صحيح أن ما ساعد على تحقيق هذا الواقع ليس قوة إسرائيل بذاتها (رغم الدور الكبير الذي لعبته فيما تعاقب من أحداث) بل كان العامل الأساس هو النهاية التي آلت إليها الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي التي انجلت عن تفرد الولايات المتحدة بالسيطرة على موقع القوة الأعظم في هذا العالم. وإقدامها على استخدام فائض القوة الذي تملكه لشن عدد من الحروب في مختلف أرجاء العالم (يوغسلافيا وأفغانستان والعراق.. بالإضافة لإشعال العديد من الحروب الأهلية والاضطرابات الداخلية المتفرقة هنا وهناك).

 في مناخ هذه الهيمنة الأمريكية تطورت لدى القيادات الإسرائيلية “شهوة” الاستيلاء على المنطقة. مع أن هذه القيادات تدرك تماما أن إمكانياتها (وبالذات البشرية) لا تعطيها القدرة على ابتلاعها، ما لم يتوفر لها عاملان مساعدان:

  • الأول: هو المزيد من التفكيك والتمزيق في دول المنطقة.
  • والثاني: هو وجود حليف إقليمي قوي يكون شريكا في هذا المشروع المصيري.

  هنا كانت عودة إسرائيل إلى “حلف الأطراف” الذي تولت العمل عليه ورعايته منذ إنشائها عام 1948. وهو الذي سعت لإقامته مع الدول والأطراف المحيطة بالعالم العربي وصاحبة المصلحة في تفكيك وحدة دوله.. فأقامت علاقات وثيقة مع الدول المحيطة (أثيوبيا وتركيا وإيران) وسعت بنشاط لتحقيق الأمر نفسه مع الأقليات ذات النزوع الاستقلالي كجنوب السودان وأكراد العراق وسورية وبعض الأطراف اللبنانية وغيرها.

انطلاقا من استعادة هذا المشروع زادت إسرائيل في السنوات الأخيرة من نشاطها المحموم في إطار “حلف الأطراف” هذا مع بعض التعديلات التي تأخذ بالاعتبار ما طرأ على الأوضاع الإقليمية من تغيرات خلال هذه السنوات.. كالتغيرات السياسية في إيران وتركيا.. ثم زادت على ذلك مضاعفة نشاطها الذي يستهدف النظام العربي الرسمي نفسه لاختراق السلطات الحاكمة في بعضه بواسطة “التطبيع النشط” كما جرى مع دويلات الخليج العربي والسودان والمغرب، بعد أن كان تركيزها في الماضي على “دول المواجهة” (مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وسورية ولبنان). وهو تركيز لم يحقق (رغم كل إنجازاته) نجاحات جذرية تضمن ترسيخ الكيان الصهيوني وتؤهله للاستيلاء على المنطقة وابتلاعها.

ما من شك في أن تطورات ما سمي ب “الربيع العربي” وتفاعلاته قد رفعت من مستوى الشهوة الاستيلائية    الإسرائيلية. فالأوضاع الراهنة في كل من العراق وسورية وإلى حد ما الأردن تشكل فرصة نادرة لتفاقم الشهوة الإسرائيلية لوضع مطامعها موضع التنفيذ. خاصة مع التطورات التي انزاح الوضع الداخلي الإسرائيلي فيها نحو أقصى درجات العنصرية والتطرف..

ضمن هذا الإطار العام بات قيام دولة كردية انفصالية ما بين سورية والعراق وإيران وتركيا (ولو على مراحل) تشكل حليفا لإسرائيل وشريكا محليا قويا (ما بين ثلاثين أو أربعين مليون نسمة) في تقاسم عائدات السيطرة على المنطقة، هدفا محتمل التحقيق، خاصة إذا كان الطرف الأمريكي متفهما لهذا المشروع ومتبنيا له. (يلاحظ في هذا المجال أنه عندما قرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أن يسحب قواته من سورية تعرض لضغط داخلي وخارجي شديدين فرضا عليه التراجع رغم أنه في المرة الثانية كان قد أعلن أنه لن يبقي على جندي أمريكي واحد داخل الأراضي السورية). 

هذا المشروع الذي يشكل فرصة ذهبية لإسرائيل، يجد فيه بعض القوميين الكرد المتطرفين “تصحيحا” للتاريخ الذي حرمهم من دولة قومية في تقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لكنه غير خاف على أحد أن هذا المشروع يهدد وحدة أراضي البلدان الأربع المذكورة أعلاه وسلامتها وأمنها القومي.  ويساهم في زعزعة الاستقرار على مدى أوسع في المنطقة، إذ ستكون له ارتدادات زلزالية تطال مصر والأردن وحتى الجزيرة العربية جنوبا، كما تصل إلى آسيا الوسطى المضطربة أصلا في الشمال.

   بعد فشل محاولات تركية حثيثة لإقناع واشنطن بخطورة هذا المشروع على الأمن القومي للدولة التركية التي تشكل الجناح الشرقي لحلف الأطلسي، أيقنت أنقرة أن وقوف إسرائيل وراء هذا التبني الأمريكي لمشروع “قسد” في شمال شرق سورية هو ما يجعل هذه المحاولات ضربا من الوهم. وبالتالي دفع بالمسؤولين الأتراك إلى التمرد على الوصاية الأمريكية، والتوجه نحو موسكو للعمل على تغيير المعادلة على حدودها الجنوبية، عن طريق تغيير معادلات العلاقة مع سورية.

 تماما كما أن تغيير موقف القيادة السورية واستجابتها للوساطة الروسية قد تما بعد أن قطعت تلك القيادة أملها من استجابة قيادة “قسد” لمشروع الحل الوحدوي الداخلي في سورية. وبالتالي بعد تأكدها من أن رهان بعض قادة “قسد” قد استجره الأمريكيون إلى داخل الشرك الإسرائيلي.

على ضوء هذه الخريطة تمكن قراءة “الانقلاب” في الموقفين التركي والسوري، بالرغم من الضغط الأمريكي الكبير لوأد المصالحة بين أنقرة ودمشق في مهدها.

تحديات كبيرة:

ما من شك في أن هذا التغير في الموقفين التركي والسوري يشكل انقلابا كبيرا في معطيات أزمة المنطقة، وتلوح في آفاقه احتمالات حلول لمشاكل كانت تبدو حتى الأمس القريب بعيدة المنال. لكنه يواجه في الوقت نفسه تحديات ومصاعب لا يستهان بها أبدا..

1- التحدي الأول: في العلاقة بين الطرفين وما تتضمنه من قضايا مستعصية:

  • أولها الأراضي السورية التي تحتلها قوات تركية، وإذا كان الجانب التركي قد بادر إلى الإعلان المبدئي عن عزمه على إعادة تلك الأراضي للدولة السورية، فإنه قد ربط ذلك بالحل السياسي الداخلي وعودة الاستقرار إلى سورية.

– وثانيها موضوع اللاجئين السوريين في تركيا أو في تلك المناطق المحتلة. وما يتطلبه من تعاون بين  

         الطرفين لإقناعهم بالعودة وتوفير المناخات والإمكانيات واللوازم المناسبة لهذه العودة.

  • وثالثها موضوع المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري وبالذات تلك المنضوية تحت المظلة التركية.

ما من شك في أن هذه القضايا الثلاث تتطلب جهودا وإمكانات مادية، تلقي بالكثير من المسؤوليات على الأطراف الثلاثة المشاركة فيها (أنقرة ودمشق وموسكو).

2- التحدي الثاني: هو موضوع “قسد” والإدارة الذاتية في شمال شرق سورية.

من الواضح أن هذه القضية التي كانت الدافع الأساس للتوجه التركي- السوري نحو المصالحة، ستشكل التحدي الأول للثلاثي التركي الروسي السوري الذي بادر إلى التلويح بالعصا الغليظة في اجتماع وزراء الدفاع الثلاثة، إذ نقل عنه “الاتفاق على أن حزب العمال الكردستاني هو وكيل لإسرائيل والولايات المتحدة، ويشكل أكبر خطر على سورية وتركيا“!

  • هل يعني ذلك أن التعامل مع “قسد” سيكون باللجوء إلى القوة لإزالة ما تشكله إدارتها الذاتية في سورية من خطر على الأمن القومي السوري والتركي؟ وماذا عن الموقف الأمريكي- الإسرائيلي من هذا الأمر؟ هل ستقف الدولتان مكتوفتي الأيدي أمام تصفية هذا المشروع الذي راهنتا عليه ودعمتاه بكل أسباب القوة المادية والسياسية؟ وما هي أشكل الصدام بين الإرادتين وما لهما من امتدادات دولية متشعبة؟ (الصدام العسكري بين القوات السورية والتركية من جهة وبين قوات سورية الديمقراطية من جهة أخرى) مع ما يمكن أن تلقاه الأخيرة من دعم أمريكي وإسرائيلي.
  • الصدام السياسي بين إدارة إردوغان وبين الإدارة الأمريكية التي تمتلك أوراقا ضاغطة كثيرة بدءا من دورها في الانتخابات التركية لصالح المعارضة وليس انتهاء بالعقوبات الاقتصادية ولعبة الدولار والليرة التركية وغيرها كثير. هذا مع العلم أن الرئيس التركي يراهن في هذه المرحلة على ما بين يديه من أوراق هامة تتعلق بالحرب الأوكرانية وموقع تركيا الحساس استراتيجيا تجاهها!
  • أم أن معسكر المصالحة سيراهن على ما يمكن أن تحدثه التطورات المستجدة من تعديل في موازين القوى داخل “قسد” لصالح الجناح المعتدل الذي يراهن على دور وحضور في معادلة المصالحة والحل السياسي السوري العام لاستيعاب مشروع الإدارة الذاتية ضمن معادلة الإدارة المحلية السورية الموسعة؟

تقديرنا أنه، بالرغم من تقارب الاحتمالات بصدد الخيارات المذكورة أعلاه، سيكون للاحتمال الأخير قدرا معينا من الأرجحية لأكثر من سبب:

1- الرهان على وطنية الأخوة الكرد.

2- الرهان على الحل السياسي الداخلي الذي لا بد وأن يتضمن الحد الأدنى من المرونة والجاذبية لضمان عودة قوى معارضة ذات وزن ومصداقية من الخارج للمشاركة فيه، وكذلك لاستيعاب المعارضة الداخلية وخلق حيوية شعبية تشكل طاقة محركة للنهوض في المرحلة الجديدة.

3- تأثير الحرب الأوكرانية وتفاعلاتها على القرار الأمريكي ما يقلص من احتمالات المغامرة لخوض معركة مواجهة مع المثلث الروسي التركي السوري في هذه المنطقة الحيوية. وأول تجليات ذلك هو دفع تركيا، ذات الموقع الاستراتيجي الخطير، جدا للاصطفاف أبعد مما هي الآن عن إجماع دول حلف الأطلسي وأقرب إلى الطرف الروسي بكل ما يمكن أن يكون لذلك من تأثير على مجريات الأمور بالنسبة للصراع في المنطقة الممتدة من أوكرانيا والبحر الأسود إلى سورية والبحر الأبيض المتوسط!

على ضوء كل ما تقدم يتضح أن هذا اللقاء، بقدر ما يحمل من فرص وآفاق واعدة وآمال بخروج المنطقة كلها من الأتون الدموي الذي غرقت فيه لأكثر من عقد، بقدر ما يستدعي من تنازلات وربما تضحيات لمواجهة ما يتربص به عقبات وتحديات وقوى معادية لا يستهان بها.

error: Content is protected !!