د. خديجة صبار
سيظل العالم يتحدث، لزمن طويل قادم، عن مونديال قطر 2022. فلأول مرة يجري هذا الحدث الكبير في دولة مسلمة وبلد عربي هي دولة قطر الصغيرة التي امتلكت جرأة المحاولة وهيأت البنية التحتية اللازمة والمنشآت الرياضية الضرورية وتمكنت بطريقة ذكية من تجنيد كل ما يلزم، وكسبت الرهان بصياغة استراتيجية تستند إلى القيم التي تتطلب القوة الناعمة والتنظيم المحكم والقرار الصلب في الأمور التي اعتبرت أنها يمكن، بل يجب، أن تكون من الأولويات. وصانعو الحدث طبعا مجموعة فرضت وجودها، شبان المنتخب الوطني الذين ألحقوا الهزيمة بأعتى المنتخبات وهذا نصر عظيم وضربة مؤلمة. بعضهم أبناء مهاجرين ولدوا وتربوا في بلاد المهجر وآخرون منتوج مغربي خالص، وقضية الهجرة عادة ما تحمل معها جرثومة التمييز العنصري. أدار المسؤولون التنظيم بعناية فائقة بحيث تم الافتتاح بآيات من الذكر الحكيم المعبر عن ثقافتنا وحضارتنا وقيمنا كهدف من هذا اللقاء الكروي الضخم وكرسالة لإعطاء لمسة من الوحدة والتضامن كما عبرت الآية 13 من سورة الحجرات :” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. التنظيم أعطى مفعوله وهذا يدل على أن عالمنا العربي يتغير سياسيا واجتماعيا، ووعى الدرس من أحداث 2011 والإخفاق في تحصيل أهداف التغيير التي انطلقت الحركات الشعبية الاحتجاجية من أجلها، بعد عزم مشروع التفكيك الكولونيالي الأمريكي المتجدد(=الشرق الأوسط الجديد) على التجزئة والتمزيق من جديد، بعد التجزئة السابقة التي أنجبها الاستعمار السكسوني البريطاني والفرنسي قبل مائة عام، فاستيقظ من الغفوة ليجدد العهد مع انتمائه الوطني ووعيه العربي القومي.
تميزت التظاهرة بالحضور الكثيف للمشجعين من مختلف الأقطار والأعمار والأجناس، غير أن الحضور القوي للفئة الشابة، من خلفيات اجتماعية ومستويات اقتصادية وثقافية متباينة فاق كل التوقعات، جلهم يعاني من وطأة الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي، وما ظاهرة إقبال الشباب عموما على تشجيع كرة القدم، في الواقع بهذه الكيفية و الكثافة، سوى نوع من الترويح على النفس وشكل من أشكال التمرد الاجتماعي على الأوضاع وعلى صانعي القرارات المفضية لصنع ظروف تلك الأوضاع، علما أن مفهوم المسؤولية مرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل. والخيط الرابط الذي يجمع بينهم هو إثبات الانتماءات ومحو الفوارق المحلية، ليظهر “الانتماء الوطني” و” الانتماء القومي” بشكل ملموس من خلال “المنتخب المغربي الوطني” المتمرس الذي عبر عن شخصية جماعية حية بما حققه من خلال أدائه في الملعب وإصراره على النجاح، وفلسفة المدرب “وليد الركراكي” الإطار الوطني، والدينامو المهندس لقيادة المغرب إلى الإنجاز التاريخي غير المسبوق في مسار كرة الجغرافية الإفريقية، برؤية برنامجية وأفكار المهارة (le savoir-faire) ، والكفاءة التواصلية مع قدرة الفريق الشاب المحنك على استيعابها سريعا، مدفوعا برغبة كبيرة في السير نحو الفوز(سير، سير، سير) لا كشعار أجوف بل كنداء للروح الكوني من أجل بلوغ الغاية القصوى، وما (قفزة 78،2 م) و(تحرك 60، 14كلم) إلا نتيجة لحافز النداء الذي أغنى الروح الإنسانية من دون الشعور بالرضا أو الاسترخاء، مع الحرص على تحديد التكتيكات ونقاط القوة والضعف بعيدا عن استنفاذ طاقات المنتخب الشبابية وحيويتها، وإعادة ترتيب جيو-سياسة لعالم كرة القدم. وشكلت هذه التجربة بالفعل لحظة مفصلية في التاريخ الكروي المغربي والعربي وحقبة جديدة ببساطة التعليقات وموضوعيتها التي تلامس الواقع، والتفكير القابل لإمكانية التطبيق والشجاعة في اتخاذ القرار.
أن تظفر قطر البلد العربي الصغير، كما وصفت، وتحتل مركز الأحداث باستضافة الحدث الكبير وأن تنجح على مستوى التنظيم والأمن والأمان والسلامة وتتحدى كل أشكال المعارضة بفرض نموذج قيمي وحسم المواقف بمعايير دقيقة تستحضر الوعي الحضاري المؤسس على الإيمان بالخصوصية الثقافية وبحتمية وحيوية المثاقفة الواعية، عبر برنامج أشبه برزنامة معناه أن خيارها كان موفقا أيضا، ذلك أن ما يمكن استقباله من الآخر يتضمن ما يوجب الرفض شأن ( الشذوذ والمثلية الجنسية والكحول في الملاعب…) وما يوجب القبول من منظور أن الذات هي التي تصنع ذاتها بذاتها ولا تتلقاها من الخارج، وفي الوقت ذاته لأن العلاقة الثقافية لا تخلو من الاثنين، ولا توجد معرفة إلا من أجل تبادلها، وبحكم أن الحداثة الأوربية لا تملك رصيدا أخلاقيا يمكنها الاتكاء عليه، و فرض الذات للمنتخب المغربي الذي يمثل العرب والمسلمين على مستوى الأداء والإنجاز ليبرز هذا الجزء من العالم الذي يرغب الجميع في ثرواته البترولية وخيراته في حين يصعب عليه بل لا يستسيغ نجاحه كما شاهدنا في الحملة السياسية والإعلامية وتلك هي مفارقة العقل والسلوك الغربيين.
واستنتاجات عديدة يمكن الخروج بها من مونديال قطر 2022 أجملها كالتالي:
– أننا نواجه معركة جديدة تتعلق بقضايا الحداثة في إطارها الوافد، تدور حول الثقافة والدين أكثر من السياسة في حد ذاتها، وتروم فرض خطاطة لا تقبل وصفا آخر وبوسيلة أخرى غير هذه الخطاطة نفسها على كل المجتمعات، وإلحاق الهزيمة بمفاهيم بمنظومة قيم معينة وتقديم أخرى يتم التحرك على أساسها(تصرف الوزيرة الألمانية يندرج في نموذج نيتشه المتحرر من المنظومة الأخلاقية. كما بين نقاط ضعف وعي حدود الآخر الأجنبي الذي يصعب عليه فهم واستيعاب ثقافتنا ولغتنا وإدراك أن الثقافات والحضارات المختلفة تمتلك مناهجها وأن لها جمالا وعمقا عظيمين، وأن الديمقراطية لا تعني فرض أفكار الغير وقيمه على الشعوب غير الغربية وهي صيغة من صيغ الاستعمار الثقافي. وعدم الاكتراث لذلك كله أمر لا إنساني، بوجه التحديات إما أن تكون في هذا العالم أو لا تكون.
– أن الشعوب هي صاحبة القرار في الحصيلة النهائية وليس السياسيين، وأن قوة المجتمعات هي ما يفرض وجودها، فقد تصدرت فلسطين- بوابة بلاد العرب والمسلمين وكرامتهم- أنشطة المونديال عبر الهتافات ورفع الأعلام، وبلورت الشعوب أسلوبها العفوي الذي يعكس أخلاق الدفاع عن الحق، في مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، على أرض الواقع، كما اتضح من خلال الشعور الجمعي العارم والمزاج العربي العام في الامتناع القاطع عن الحديث مع صحافته كما بثته وسائل الإعلام المختلفة وعبر عنه أحد صحافيي الكيان:” تجربتي أنهت أي أمل بتحسين علاقتنا مع الشعوب العربية”. وتلك لعمري وصمة على وجه المطبعين وتحديا لقرارهم. الشعوب واعية بأن فلسطين ليست مسألة شخصية أو تتعلق بالفلسطينيين فحسب بل تتعلق بمستقبلها وحدتها وتقدمها وعروبتها، وتجاوز الذات يتطلب الالتزام بأمور أعظم منها، ويقتضي تحمل المسؤولية إزاء القضايا البشرية العادلة، لا من أجل فلسطين فقط بل من أجل العدالة باعتبارها تجسد الكفاح من أجل التحرر وقيم الديمقراطية والحرية والاستقلال ذاتها لشعوب العالم. الحرية بمعناها الأوسع والترقي إلى مفاهيم جديدة مع بقاء الأقدام ثابتة على أرضيتنا البشرية. فأحياء غزة وما يعانيه الشعب الفلسطيني من أساليب القتل بدم بارد وحصار وتجويع وحصار إلى جانب الحصار الأمريكي وإفراغ البلدان من ثرواتها(سوريا العراق، ليبيا) قد يتحالف القادة مع الغرب وينساقون لرهان التطبيع لكن الشعوب بوصفها القاعدة المتينة والقوة الحقيقية تتمسك بموقفها تجاه هذا الورم المبثوث في قلب الأمة العربية ويراد منها التعامل معه كأنه دولة طبيعية، ونموذج فيما يتعلق بمشاريع التنمية والحرية والإبداع كما يسوق لها، والحال أنه كيان محتل ومغتصب يمعن في القتل والتنكيل والتهجير ومصير كل احتلال إلى زوال كما علمنا التاريخ. لا يتعلق الأمر بالتطبيع بل بإخراج المستعمر الدموي التدميري من المعادلة، ومن قضية شهدت أعمال عنف وقمع كثيرة عبر عقود من الزمن.
– أظهر أسود الأطلس أن النبوغ يكون جماعيا لا فرديا، بمعنى قدرة الجماعة على إبداع وجودها لا قدرة الأفراد، “نبوغ الأفراد الذين لا يتنكرون لمحيطهم الجغرافي والاجتماعي والتاريخي.” لم يفكر أفراد المنتخب الوطني بأمور تتعلق بلهجاتهم أو طبقتهم أو فئاتهم بل بالنجاح الذي أحرزوه والمتعة التي قدموها للجماهير العربية المشجعة بحماس، والتي كانت آمالها عريضة وجاءت النتيجة في مستوى طموحها، كما اهتموا بالقضية الفلسطينية العادلة التي رفعوا علمها عاليا في مسرح الحدث وجالوا به أركان المعلب تضامنا وانسجاما مع الصورة الجمعية للشعوب العربية قاطبة الرافضة للتطبيع من المحيط إلى الخليج والتي وضعت الكيان المحتل أمام واقع حقيقته، موقف نقلته وسائل الإعلام وعلى الهواء مباشرة من قلب المونديال الشيء الذي جعلهم يتساءلون ” لماذا يكرهنا العالم العربي والإسلامي وأحرار العالم”؟
– فضح المونديال قطر 2022 خداع العالم الغربي الذي يكيل بمكيالين وتعجب البعض من أسلوب نظرته النقدية إلى التظاهرة لأنها لا تسير بحسب ما كان يتوقعه متناسين أن تطور العرب لن يقبله الغرب إلا من خلال مبدإ التبعية، ذاك عامل يترافق مع مشاعر استعمارية قوية لا تزال كامنة تحت سطح الشخصية الأوربية، وهي عقدة التفوق وعدم الشعور بالأمن من نهوض الآخر غير الأوربي، فما بالك إن كان عربيا. يكفي أن نتذكر شن الاستعمارين البريطاني والفرنسي وإسرائيل عدوان 1956، ليتمكن الغرب عبر إسرائيل من إحالة مشروع النهضة العربية التنويرية إلى سراب.
– حضور أمهات الأبطال والهرع نحوهن في كل فوز دليل التنشئة الاجتماعية و الإشباع العاطفي ويحكي صيرورات الحياة وعنف الهجرة في شكلها الإيجابي والسلبي و تضحيتهن، فهن مستودع القيم والمعرفة الأخلاقية والثقافة يمررنها لأبنائهن بسلاسة مما يدل على تماسك الرابطة الأسرية وعلى التعاون والتضامن، فتماسك المجتمع من تماسك الأسرة. وهذه هي العقبة الكأداء أمام موج الإباحية والثورة الجنسية بالنسبة للغرب.
– إن الوقت قد حان أمام الغرب كي يعالج مشكلة جهله بالإسلام المبني على فرضيات تشكل الكابوس بالنسبة له ليتجاوز مرحلة الهلع والفزع التي تطال وعيه والتي تجعله لا يقبل منه سوى موقف واحد هو موقف التلقي والاستهلاك والتبعية العمياء والتسخير الكامل. وأن يكف عن التركيز على الإسلام كعدو محتمل للتنفيس عن تناقضاته.
– نزول المغرب الرسمي إلى جانب المغرب الشعبي بثقليهما لتتبع مباريات الأسود بجهدهم الأقوى وإسرارهم ومثابرتهم هي الطريقة عينها التي يحتاجها المغرب لكسب المعارك على المستوى التربوي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
أخيرا ألف شكر لأسود الأطلس الذين أخرجونا من نفق التبعية والاستهلاك إلى الوجود الحقيقي حيث تنكشف عبر إنجازهم كينونتنا كاقتدار على صنع التاريخ.